كتاب المادة المضادة المادة التي تسترجع الزمن – تأليف غابرييل شاردان

يستدعي هذا الكتاب القارئ لاستكشاف العالم المرآة.
إنه عالم قريب جدًا من عالمنا، بحيث من العسير تمييزه عن عالم مادتنا. إن مفارقة هذا العالم، الذي يبدو كمرآة لعالمنا، تكمن في طابعه البالغ الخطورة، إذ إن لقاء عوالم المادة والمادة المضادة يؤدي إلى انفجار بالغ العنف وإلى الإعدام التام لأحدهما.

لنتصور للحظة أن كوكبنا وجد نفسه فجأة مكونًا من كميات متساوية من المادة والمادة المضادة. ستصاب أرضنا مباشرة بانفجار سيكون أكثر كارثية من انفجار قنبلة نووية من نوع قنبلة الهيدروجين. فالمادة حين تلتقي بالمادة المضادة تنعدم بشكل آني في شكل تحرر للطاقة. والانفجار الهائل الذي ينتج عن هذا اللقاء الكارثي بين الجزيئات والجزيئات المضادة يتمدد في فقاعة من النار تنتشر بسرعة قريبة من سرعة الضوء. وحين تصل قرب النظام الشمسي، على بعد ستة مليارات كيلومتر من الأرض، يظل الانفجار يسير ببضعة كيلومترات في الثانية، بقوة كافية كي تحرق سطح بلوتو بحرارته المعادلة لألف درجة.

يمكننا من خلال هذا أن ندرك بأن المادة المضادة لا يمكن أن توجد في جوارنا إلا بكميات ضئيلة جدًا. لنتصور فقط أن كمية من المادة المضادة، بحجم بضعة غرامات، لا تتجاوز مثلاً حجم العملة المعدنية، ستكون كافية، بانحلالها في المادة المحيطة، أن تدك مدينة كبرى مثل باريس. ولعل هذا الجانب من الأمور هو ما يدفع العسكريين إلى قراءة المنشورات المتعلقة بالمادة المضادة بالكثير من الاهتمام. وفعلاً، بخلاف القنابل الذرية، التي لا تتحول إلى طاقة إلا بنسبة ضئيلة جدًا (في حدود 1% فقط من حجم القنبلة في الإشعاع)، فإن قنبلة من المادة المضادة، إذا افترضنا معرفة صناعتها، ستكون ذات مردودية قصوى تصل إلى 100%.

بعيدًا عن هذه الأحلام الحربية، لا يزال العالم يسعى اليوم إلى إيجاد أجوبة عن الأسئلة التالية: هل يحتوي الكون على مادة قدر المادة المضادة؟ أين توارت كل المادة المضادة التي كانت موجودة منذ فجر الكون؟ لماذا سعت الطبيعة إلى خلق عالم مرآة يتألق اليوم بغيابه؟ لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة، سنسعى أولًا إلى فهم كيفية ظهور مفهوم المادة المضادة في غمرة اكتشاف بنية الجزيئات. ومن خلال رسم تاريخ الكون وشبابه الصاخب، سنحاول فهم الدور الذي استطاعت المادة المضادة أن تلعبه، والذي صار هامشيًا أكثر فأكثر مع هدوء الكون.

بعد ذلك، سوف نستكشف عوالم المادة المضادة، منطلقين من النظام الشمسي لنصعد نحو المجرات والبُنى الكبرى للكون. ثم سنسعى إلى فهم الآليات التي تقود إلى موت المادة وإلى احتراقها النهائي بدراسة سيرورتين: موت البروتون وتبخر الثقوب السوداء، اللذين ينزعان أي معنى عن مفهوم المادة، ومن ثم المادة المضادة، وقد يتحكمان في المستقبل البعيد للكون. إن الإشارات التي ستمنحها لنا دراسة الثقوب السوداء عن التماثل الممكن بين المادة والمادة المضادة ستقودنا إلى الدفاع عن أطروحة مدهشة، تتعلق بإمكانية تنبؤ النسبية العامة بجاذبية تنافرية للمادة المضادة. فالرصد الذي تم منذ 1998 لتزايد توسع الكون، المنسوب إلى “طاقة سوداء” غير معروفة، يدفعنا إلى أخذ فرضية كهذه على محمل الجد، رغم ما يشوبها من مشكلات جوهرية. إن ميدان الكوزمولوجيا في تطور مطرد، ومئات المقالات تهتم بهذا المكون التناوبي الغريب في الكون.

تطلب التقدم في فهمنا للمادة المضادة أخيرًا التمكن من صناعتها، كما من صناعة الذرات المضادة ذات الطاقة الضئيلة. وسوف نصف المجهودات التي بُذلت منذ بداية تسعينيات القرن الماضي في المركز الأوروبي للدراسات الذرية (CERN) قصد إنتاج ذرات الهيدروجين المضاد الأولى. كما سنتطرق إلى الطريق الطويل نحو صناعة الذرات المضادة التي تكون بالغة البرودة بحيث يمكن الاحتفاظ بها في شراك مغناطيسية. ومن خلال هذه الدراسة المتأنية، قد يتمكن الإنسان من العثور على الطريقة التي سيستعمل بها عالم المادة المضادة للتحكم بشكل أفضل في الكون.