كتاب نساء في قطار الجاسوسية جاسوسة فوق العادة والقطة PDF تأليف صالح مرسي

لا أحد يعرف على وجه الدقة متى بدأت “إرمجارد شميدت” عملها مع مخابرات ألمانيا الشرقية. فالمعلومات التي أدلت بها هذه السيدة من جهة، وتلك التي جمعتها عنها مخابرات الولايات المتحدة من جهة أخرى، كانت متشابكة ومتضاربة إلى حد يصعب معه استخلاص الحقيقة الكاملة. غير أن الثابت هو أن هذه السيدة، التي لم تكن قد تجاوزت الثلاثين من عمرها عندما أدّت مهمتها الجريئة، كانت تتمتع بقامة ممشوقة، وجسد متناسق، وشعر ينسدل بنعومة على كتفيها، مما أضفى على وجهها سحرًا خاصًا.

وقد أجمع كل من عرفها أو تعامل معها على أنها كانت قريبة الشبه بالممثلة الأمريكية ذات الأصول الألمانية “مارلين ديتريش”. وإلى جانب ذكائها الحاد، كانت تمتلك رغبة جامحة في حياة مرفهة، بعيدًا عن شظف العيش الذي كان يعاني منه مواطنوها في ألمانيا الشرقية.

لكن الأهم من ذلك كله، أن “إرمجارد شميدت” كانت عميلة محترفة لجهاز مخابرات امتلك سمعة بارزة في عالم الجاسوسية. كانت واحدة من أولئك العملاء الذين يتقنون اللعبة بإتقان ساحر قادر على النوم فوق المسامير، مستمتعًا بلذة غامضة تبدو للمراقب مثيرة وغريبة في آن واحد.

لم يكن معروفًا إن كانت “إرمجارد” مؤمنة حقًا بالشيوعية أو متحمسة لها، لكن ما كان واضحًا من تصرفاتها أنها رأت في العمل مع المخابرات طريقًا ميسّرًا لتحقيق كل ما تطمح إليه من رفاهيات ومزايا لم يكن في متناول المواطن العادي في ألمانيا الشرقية. ومع مرور الوقت، أصبحت ترسًا في آلة جهنمية لا تستطيع – أو ربما لا تريد – الخروج منها. ولذلك، كان عليها أن تتقن اللعبة، وأن تتميز في مهامها لضمان بقائها داخل هذه الدائرة الخطرة.

وهكذا، عندما رأت قيادات المخابرات أنها مؤهلة لمهمة بالغة الخطورة، تقرر إرسالها في أوائل عام 1958 إلى موسكو لتلقي دورة تدريبية متقدمة. ومن برلين، انطلقت “إرمجارد شميدت” في رحلة سرية إلى العاصمة السوفيتية، حيث أمضت ثلاثة أشهر في إحدى أكاديميات المخابرات السوفيتية.

ومن يعرف أساليب جهاز المخابرات السوفيتي “كي جي بي” يدرك جيدًا مدى الدقة والانضباط الصارم الذي يتميز به تدريب عملائه. فهذه الأكاديميات كانت تُدار وكأنها مدن قائمة بذاتها، لكل منها قوانينها الصارمة وأساليبها الخاصة، بحيث يخرج منها العميل جاهزًا تمامًا لأداء مهامه مهما كانت الصعوبات التي ستواجهه.

لم تكن “إرمجارد” على دراية بالمهمة التي أُرسلت من أجلها، ولم يكن مسموحًا لها بالسؤال. منذ اللحظة الأولى لوصولها، وجدت نفسها أمام برنامج مكثّف، بالكاد يترك لها ساعات قليلة للنوم والطعام.

كان عليها أن تتقن مجموعة من المهارات المتقدمة، بدءًا من استخدام كاميرات فائقة الصغر مخفية في خاتمها أو في أنبوب أحمر الشفاه، قادرة على التقاط صور مجهرية بحجم نقطة في كتاب. كما خضعت لتدريب شاق على فك وكتابة الشفرات المعقدة، وهي مهارة تتطلب يقظة ذهنية خارقة، حيث يصبح نسيان خطوة واحدة كفيلًا بإفساد عملية بأكملها.

لكن اللحظة التي أدركت فيها “إرمجارد” خطورة المهمة التي تنتظرها، كانت عندما بدأت التدريب على مقاومة أجهزة كشف الكذب. هنا، أصبح من الواضح أنها ستعمل في الأراضي الغربية، ربما في برلين الغربية، حيث كان الصراع بين مخابرات الشرق والغرب في ذروته.

في ذلك الوقت، لم تكن أجهزة كشف الكذب متطورة كما هي اليوم، وكان تجاوزها يعتمد على مهارات العميل الشخصية. لكن التدريب الأكثر إثارة كان تعلّم التنويم المغناطيسي الذاتي، وهي تقنية تُمكّن العميل من تهدئة نبضه والتحكم في ردود أفعاله، بحيث يبدو طبيعيًا تمامًا حتى أثناء الخضوع للاستجواب.

كان التدريب قاسيًا إلى أقصى الحدود، لكنه أكد لها يومًا بعد يوم أنها مقبلة على مهمة من نوع خاص، تختلف عن العمليات التي نفذتها سابقًا في برلين الشرقية. وما إن أنهت هذه المرحلة، حتى انتقلت إلى مرحلة أخرى أكثر غرابة وإثارة.

في هذه المرحلة، كان عليها دراسة كل ما يتعلق بالجيش الأمريكي، وخاصة القوات الموجودة في ألمانيا الغربية، وكذلك قوات حلف الناتو، من حيث انتشارها، أنواع أسلحتها، وطرق عمل مخابراتها. عند هذه النقطة، أصبحت متيقنة من أن مهمتها ستتم داخل الأراضي الألمانية الغربية، وستتعلق بالأمريكيين تحديدًا.

أدركت حينها أنها ستواجه العقول الأمريكية، وأنها ستدخل عالمًا مليئًا بالثراء والبذخ، وهو ما كانت تتوق إليه منذ البداية. وبلغت سعادتها ذروتها عندما انتقلت إلى الجزء الأكثر إثارة في التدريب: دراسة شخصية “الرجل الأمريكي” نفسه، وهي خطوة أخيرة قبل أن تبدأ لعبتها الكبرى في عالم الجاسوسية.