كتاب حوارات سيدني حوارات في النشوء والتطور والعلم وانكشاف فضاء الوهم PDF تأليف ريتشارد دوكنز

هذا الكتاب يحوي حوارات ومقابلات ومعالجات للعالم البيولوجي التطوري البريطاني ريتشارد دوكنز.
يقدم أقوى أشكال الاحتجاج العلمي والمنطقي في مواجهة الخرافة والتعجيز المتعمد للعقل، كما يواجه فجوات التسلسل التاريخي الفاضحة التي تهملها الأساطير المكوّنة للعقائد الموروثة، بعيدًا عن حقائق وبراهين العلم الذي ملأ حياتنا وأصبح جزءًا من الوجود الإنساني.

منذ سبعينيات القرن الماضي، شغل دوكنز الرأي العام العالمي بآرائه الجريئة، المبنية على منطلقات علمية واضحة، بدءًا من كتابه المثير للجدل الجين الأناني (1976). واستمر في الترويج لأفكاره، التي هي خلاصة لأبحاث علمية تجريبية متراكمة لعلماء آخرين، عبر وسائل متعددة، مثل المحاضرات المفتوحة والمناظرات التلفزيونية. كما أجرى بنفسه حوارات صحفية مع علماء وكتّاب ومختصين في علوم الأديان، إلى جانب قساوسة ودعاة دينيين، بهدف توفير بوابة منطقية للمتلقي ليحتكم إلى العلم بدلًا من أي شيء آخر.

ثم خطا دوكنز خطوته الأهم في كتابه الشهير وهم الإله، وهو أكثر كتبه إثارةً للجدل، حيث يتناول تأثير الدين على قرارات الأفراد وخياراتهم.

ما يهمنا في هذه المجموعة من المواد الفكرية المتنوعة هو أن تصل إلى القارئ العربي بكل زخمها وجدليتها، ليكون على دراية بنمط الحراك الفكري الذي تثيره في الأوساط العالمية المختلفة، إذ لم نعد نعيش في معزل عمّا يحدث في العالم.

لا يكفي أن نسمّي شيئًا علمًا ما لم يعلم به الناس؛ فالعلم ليس مجرد مركبة فضائية محمّلة بالمعلومات تنتظر الرسو على كوكب ما. وغالبًا ما يُتهم العلم بالعجز عن توصيف القيم الإنسانية وتفسيرها، لكن العقلانية العلمية والمنطق الذي يبنيه العلم في عقل الإنسان يمثلان بلا شك أرقى ما وصلت إليه البشرية على الإطلاق.

لكن، ما هي العلوم التي يجب أن تصل إلى الناس؟ يفترض دوكنز أن العلوم الأكثر أهمية هي تلك التي توضّح استحالة حدوث الخرافات، وتجذب الناس بآليات تفكيرهم الجمعي إلى مساحة آمنة بعيدًا عن تأثيرها. فلا يكفي أن نسمّيها خرافة كي تكون في مأمن من تحولها إلى سموم تلوث العلم نفسه. هذه استراتيجية دفاع فاشلة، لأننا سنجد في كل زمان مشعوذًا أو أكثر يحاول ليَّ عنق العلوم بالكلام فقط، ليجعلها تبرر الخرافة.

لماذا أخذ دوكنز قضية المعرفة العلمية إلى ساحة بحجم العالم بأسره ليعرضها ويقاتل من أجلها؟ لأنه يرى أن المعرفة قد وصلت بالفعل إلى حافة صراع سافر مع الفرضيات الخيالية أو الروحانيات التي تؤدي إلى تزييف المعرفة الإنسانية.

العالم اليوم يقف على عتبة تصادم ولحظة حقيقة، بل إن التصادم قد بدأ بالفعل. فإما الاستمرار في حالة التيه والانتشاء بفرضيات بلا يقين، أو أن ندرك مستوى التحدي العلمي الذي يقسّم العالم إلى نصفين بشكل غير مسبوق.

يرى دوكنز أن الصراع، مع انبثاق عصر الترابط البشري، قد بلغ ذروته، مما يهدد البنيان المعرفي للإنسانية بالتقويض. وليس الإرهاب العالمي إلا انعكاسًا لهذا الصراع، حيث تمارس الروحانيات والخرافات – وحتى بعض الأديان – تأثيرًا يزيف معنى المعرفة العلمية، بينما تستمر العلوم الحقيقية، القائمة على الأدلة والتجارب، في تعزيز موقعها.

وربما يمكن القول إن العلوم التي يجب أن تصل إلى الناس هي تلك التي تترسخ بازدياد الاستكشافات العلمية والتاريخية، فهي تعزز نفسها بنفسها أو عبر علوم أخرى. ولا بأس إن حدث بعض التناقض داخلها، فهذا لا يدل على بطلانها، كما لا ضرر إن أسفرت الأبحاث الجديدة عن نفي مسلمة علمية قديمة، فذلك يصب في صالح تعزيز الجبهة العلمية نفسها. العلم يصلح أخطاءه بنفسه، بينما تقودنا الخرافة إلى المجهول، حيث يتحول الخيال إلى “حقيقة” متخيلة، مما يفقدنا القدرة على التمييز بين الواقع والأوهام.

لقد اختصر ريتشارد دوكنز هذه الفلسفة العلمية بأن بدأ بالفعل بالدعوة إلى أهم النظريات العلمية الجدلية وإبراز الجانب العقلي المقارن فيها، وعلى رأسها نظرية التطور الأحيائي التي أسّس لها تشارلز داروين عبر مفهوم الانتخاب الطبيعي.

هذه العلوم تجعل القصة لا تنتهي أبدًا، مهما تمددت رقعة الخرافة، ولن تترك لها مساحة تستريح فيها، لأن الخرافة تسوّق بضائعها على أنها حقائق علمية. باختصار، يمكن هزيمة الخرافة بالعلم، لكن لا يمكن للخرافة أن تهزم العلم، طالما أنها تحاول الاستعانة به، مما يفتح الباب أمام العلم الحقيقي لاكتساحها في نهاية المطاف.

كم مرة حاول دعاة الخرافة ربطها بالحقائق العلمية؟ الدافع هنا واضح: فهم يدركون أن العلوم، التي تستند إلى الحقائق والبراهين، هي الأسرع وصولًا إلى عقول الناس من أي منهج آخر. هذا ليس دافعًا بديهيًا فقط، بل هو إدراك داخلي يجعلهم يعرفون أي الخيارات يمكن لها أن تسوّق نفسها.

ما يقوله دوكنز هنا عن نوعية العلوم التي يجب أن يحيط بها عامة الناس قبل الانخراط في معركة الصراع بين العلم والخرافة هو أن المعرفة الحقيقية هي تلك التي ترسخت وأثبتت نفسها، وكلما مضى الزمن صارت لها تطبيقات عملية تدخل في حياتنا اليومية. ومع ذلك، تبقى الخرافة أمرًا لا يُستهان به، لأنها تستغل الفراغ المعرفي الذي يبحث عن إجابات جديدة للأسئلة الوجودية.