كتاب الهوى دون أهله أم كلثوم سيرة ونصا PDF تأليف حازم صاغية

لم يكن من قبيل المصادفة أن تحوّلت أم كلثوم في عهد عبد الناصر إلى مغنية بلا منافس، بل أصبحت صوت “الشعب” بأسره. لقد سعى النظام الناصري إلى توحيد الأذواق والرغبات، ممحوًا بذلك الطابع الكوزموبوليتي الذي ميز القاهرة في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات. لم يقتصر هذا التوحيد على الموسيقى فحسب، بل امتد إلى مختلف جوانب الحياة، من الثقافة إلى اللغة وسائر مرافق الحياة العامة.

من خلال إعادة تشكيل الخريطة الاجتماعية والثقافية، أنتج النظام الناصري الشروط المثالية لازدهار الظاهرة الكلثومية. فقد كانت الشعوب التواقة إلى استعادة طفولتها وسط عالم يهرب من معناه ودلالاته تجد في أم كلثوم رمزًا لـ”الخلود” و”الأصالة”، في وقت كانت فيه المدن تفقد هويتها أمام زحف الريف، وكانت السياسة والاجتماع لا يزالان متأثرين بالبُعد الديني.

في هذا السياق، وجدت أم كلثوم نفسها تتأرجح بين التعالي على الناس ومفارقتهم من علوّ، وبين التعبير العميق عن مشاعرهم وأحلامهم. لقد جمعت بين كونها شخصية شبه مقدسة، تُنسب إليها صفات الكمال الإلهي، وبين كونها موظفة في خدمة السياسة الناصرية، حيث كانت صوت الزعيم ولسان حال الأمة.

لكن لم يكن صوت أم كلثوم وحده، رغم أهميته، هو ما جعلها “كوكب الشرق” وصاحبة المكانة فوق الإنسانية التي أُسبغت عليها. فقد نجحت في تحويل أغنياتها إلى نصوص إيديولوجية تعبّر عن الذات القومية، خالية من الدلالات الاجتماعية العابرة، متشبثة بثوابت التاريخ. لم تتبنَّ الأغنية الكلثومية سوى ملاحم البطولة والعظمة، بعيدة عن الابتذال أو الفضائح التي عادة ما تلاحق الفنانين والفنانات.

حين خانت الرصانة كاتبة سيرتها، خاطبتها قائلة: “كأنك تمثلين النيل من منبعه، حيث يتدفق قويًا جارفًا عند هضبة البحيرات، ثم يصير عذبًا رقراقًا عند الزمالك”. هكذا، تجسدت أم كلثوم كواحدة من تعبيرات النرجسية القومية، حيث اندمجت صورتها في وجدان جمهورها مزيجًا من العظمة الوطنية والرسوخ الطبيعي.

ورغم هذه الهالة، لم يظهر نقد جاد للظاهرة الكلثومية، سواء من ناحية الغناء أو المحتوى الشعري. كان النقد إما هامشيًا وشعبويًا، نابعًا من فئة صغيرة داخل اليسار المصري، أو سطحيًا يرتكز على ملاحظات تتعلق بالتكرار والإطالة والملل، دون المساس بجوهر الظاهرة نفسها. وحتى عندما تجرأ أحد كتّاب الروايات البوليسية على الإشارة إلى احتمال تورط أم كلثوم في مصرع أسمهان، لم يأتِ هذا الاحتمال إلا في المرتبة الرابعة ضمن مجموعة فرضيات، مع إضافة اعتذارية توحي باستحالة ذلك بسبب “شخصيتها الدينية”.

من المؤكد أن بروز أم كلثوم كان نتيجة تفاعل عوامل موضوعية لا يمكن إنكارها. فمنذ ثلاثينيات القرن الماضي، ومع نشأة الإذاعة المصرية، بدأت تتصدر المشهد الغنائي العربي. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من تحولات اجتماعية وطبقية، التقطت أم كلثوم هذه التغيرات بذكاء، وبدأت في اختيار كلمات شعبية قريبة من وجدان الجمهور الجديد. من هنا جاء تعاونها مع بيرم التونسي، الذي منحها روح الأغنية الشعبية القريبة من الناس.

وفي الخمسينيات، ومع انتشار جهاز الترانزستور في العالم العربي، جاء تعاونها مع محمد عبد الوهاب ليضيف بُعدًا حداثيًا إلى موسيقاها، ما جعلها تنفتح على جمهور أوسع. لكن مع وصولها إلى قمة مجدها في العهد الناصري، تجاوزت الظاهرة الكلثومية مجرد كونها ظاهرة فنية، لتتحول إلى رمز مطابق للتصور الإيديولوجي للذات القومية.

هذا التطابق بين أم كلثوم ومصر الناصرية انعكس في كتابات سيرتها، حيث لم تتردد كاتبة سيرتها في تماثل قصتها مع قصة مصر نفسها، معتبرة أن “في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تعرضت مصر للعديد من المحن والديون، لكنها لم تتوقف عن العطاء في مجال الفن”. هكذا، تم إسقاط تاريخ الفن على تاريخ السياسة، وصُوّرت أم كلثوم كصوت الشعب وممثلته.

لم يكن هذا التماثل مجرد صدفة، بل كان امتدادًا لمسار رسمته الدولة الناصرية، التي وجدت في صوت أم كلثوم وسيلة لتكريس هوية قومية مستقرة. وليس أدل على ذلك من أدائها لنشيد “والله زمان يا سلاحي” عام 1956، الذي أصبح النشيد الرسمي للقومية العربية الناصرية، ورمزًا لامتداد النفوذ المصري في الخارج.

بهذا، باتت أم كلثوم جزءًا لا يتجزأ من الرواية الرسمية للذات المصرية والعربية، حيث اندمجت في خطاب يعيد إنتاج نفسه دون أن يتيح مساحة لنقد حقيقي، لتظل صورتها خالدة في الوجدان الجمعي، تمامًا كما هي صورة النيل والأهرامات وبطل القومية العربية، جمال عبد الناصر.